Home » » وجوب التحاكم إلى الشريعة

وجوب التحاكم إلى الشريعة

Image result for ‫وجوب التحاكم إلى الشريعة‬‎
وجوب التحاكم إلى الشريعة

بقلم:

عبد القادر بن عبد العزيز

 

مقتبس من كتاب الجامع





(تمهيد) وفي موضوعنا هذا نقول:
إن تحاكم المسلمين إلى الشريعة ــ في نوازلهم وخصوماتهم ــ واجب يدخل في أصل الإيمان، وتركـُه ــ إذا وجب وكان مستطاعاً ــ كـُفر، لقوله تعالى (فلا وربك لايؤمنون حتى يُحكموك فيما شجر بينهم، ثم لايجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت، ويُسلموا تسليماً) النساء 65.
وأكثر المسلمين في غفلة عن هذا الواجب الشرعي، مع استسلامهم لتحكيم قوانين الكفر في دمائهم وأعراضهم وأموالهم، ومن يعي هذا الواجب منهم يظن القيام به مستحيلا مع تطبيق قوانين الكفر في بلادهم، وليس الأمر كذلك.
فإن المسلمين مازال بوسعهم التحاكم إلى الشريعة في نوازلهم وخصوماتهم رغم تطبيق قوانين الكفار في بلادهم، وذلك بتحاكمهم بالتراضي إلى مؤهل للحكم منهم، من عالم وطالب علم ٍ حسب المستطاع، ومادام ذلك ممكنا فهو واجب لقوله تعالى (فاتقوا الله مااستطعتم) التغابن 16، ولقوله صلى الله عليه وسلم (وماأمرتكم به فأتوا منه مااستطعتم) الحديث متفق عليه.
وهـذه المسألـة ــ وهـى تحاكـم المسلمـين بالتراضـي إلى مؤهـل للحكـم ــ تُعرف في كتـب الفقـه بمسألة (التحكيم)، وذلك في مقابل (التقاضي) إلى القاضي الـمـُوَلَّى من جهة إمام المسلمين.
والتحكيــم جــائز في وجــود القاضــي الـمـُوَلَّى في دار الإسـلام، وواجـب في غيــاب القاضي الشرعي الـمُوَلَّى كما هو الحال في شتى بلدان المسلمين اليوم. وسأذكر فيما يلي أقوال العلماء في حُكْم التحكيم في هذين الحالين، ثم اُتبعها ببيان ما يجب من ذلك على المسلمين في هذا الزمان.



أولا:
  بيان جواز التحكيم مع وجود القاضي الشرعي المـُوَلَّى في دار الإسلام

ففي دار الإسلام التي تعلوها أحكام الشريعة ويحكمها إمامٌ مسلمٌ، ويتولى فيها القضاة ُ الـمُعَيَّنون من جهة الإمام الحكمَ بين الناس، يجوز للمسلمين أن يتحاكموا إلى رجل ٍ مؤهل ٍ للقضاء برضاهم بخلاف قاضي الإمام، وتلزمهم أحكام هذا الحَكَم. ولم يختلف العلماء من سائر المذاهب في جواز ذلك من حيث المبدأ، وإنما اختلفوا فيما يجوز التحكيم فيه من الخصومات والنزاعات، وهل يجوز للحَكَم أن يحكم في سائر مايقضي فيه القاضي الـمُوَلَّى أم لايجوز له ذلك إلا في بعض الأمور؟. وسوف ترى من كلام العلماء أن اختلافهم فيما يجوز التحكيم فيه مرجعه إلى وجود القاضي الـمُوَلَّى، وأن ماتشتد فيه الخصومة رأي بعضهم ألا يحكم فيه إلا القاضي الـمولَّى، وعلى هذا فإن الخلاف فيما يجوز فيه التحكيم ينبغي أن يرتفع مع غياب قاضي الإمام. كذلك سترى أيضا أن التحكيم فيه رفع للمشقة عن الناس وعن القاضي في دار الإسلام، فليس كل أهل دار الإسلام بإمكانهم الترافع إلى القضاة دون مشقة كأهل البوادي ونحوهم، فإذا حكّموا مؤهلاً من بينهم ارتفعت عنهم مشقة الرحلة وخفّ العبء عن القاضي، وهذا ماأشار إليه القاضي أبو بكر بن العربي في (أحكام القرآن) صـ 622 ــ 623.
وإليك أقوال العلماء من مختلف المذاهب في جواز التحكيم مع وجود القاضي المولَّى في دار الإسلام:
1 ــ قال ابن ضويان الحنبلي في شرح الدليل (فلو حكَّم اثنان فأكثر بينهما شخصا صالحا للقضاء: نَفَذَ حُكْمـُه في كـل ماينفـذ فيـه حكـم من وَلاَّه الإمام أو نائبــه) لحـديث أبي شريح رضي الله عنه، وفيه أنه قال (يارسول الله إن قومي إذا اختلفوا في شـيء أتوني فحكمت بينهم، فَرَضِيَ كلا الفريقين. قال: ما أحسن هذا!) رواه النسائي (وتحاكم عمر وأُبَيُُّ إلى زيد بن ثابت رضي الله عنهم، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم رضي الله عنهم، ولم يكن أحد منهما قاضيا) ــ قال في المتن ــ (ويَرْفَعُ الخلافَ، فلا يحل لأحد نقضه حيث أصاب الحق) ــ قال في الشرح ــ لأن من جَازَ حكمُه لَزِمَ كقاضي الإمام.(منار السبيل شرح الدليل) جـ 2 صـ 459 ط المكتب الإسلامي 1404هـ، وحديث أبي شريح حديث حسن رواه أبو داود والنسائي.
2 ــ وفَصَّل ابن قدامة الحنبلي هذه المسألة في كتابه الكافي (جـ 4 صـ 436 ط المكتب الإسلامي 1402 هـ)، وفي كتابه المغني (المغني والشرح الكبير جـ 11 صـ 483 ــ 484) وإليـك كلامــه في المغــني: (فصل) وإذا تحاكم رجلان إلى رجل حَكَّماه بينهما ورضياه وكان ممن يصلح للقضاء فحكم بينهما، جاز ذلك ونفذ حكمُه عليهما، وبهذا قال أبو حنيفة وللشافعي قولان (أحدهما) لا يلزمهما حكمه إلا بتراضيهما، لأن حكمه إنما بالرضى به ولايكون الرضى إلا بعد المعرفة بحكمه.
ولنـا ما روى أبـو شـريح رضي الله عنه أن رسـول الله صلى الله عليه وسلم قــال لــه (إن اللــه هــو الحَكَم فلِــم تُكَنَّى أبــا الحكم؟) قال إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكَمْتُ بينهم ورَضِىَ عَلَيَّ الفريقان، قال: ماأحسن هذا فمن أكبر ولدك؟: قال شريح قال: فأنت أبو شريح) أخرجه النسائي.
ورُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «من حَكَم بين اثنين تَراضَيَا به فلم يعـدل بينهما فهــو ملعــون» ولولا أن حكمه يلزمهما لما لَحِقَه هذا الذم. ولأن عمر وأُبَيًّا تحاكما إلى شريح رضي الله عنهم قبل أن يوليه، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم رضي الله عنهم ولم يكونوا قضاة.
فإن قيل فعمر وعثمان كانا إمامين فإذا ردا الحكم إلى رجل صار قاضيا. قلنا لم ينقل عنهما إلا الرضى بتحكيمه خاصة وبهذا لايصير قاضيا، وما ذكره يَبْطـُل بما إذا رضي بتصرف وكيله فإنه يلزمه قبل المعرفة به، إذا ثبت هذا فإنه لايجوز نقض حكمه فيما لايُنْقَض فيه حُكـْم من له ولاية. وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: للحاكم نقضه إذا خالف رأيه لأن هذا عقد في حق الحاكم فمَلَك فسخه كالعقد الموقوف في حقه.
ولنا أن هذا حكم صحيح لازِمٌ فلم يجز فسخه لمخالفته رأيه كحكم من له ولاية، وما ذكروه غير صحيح فإن حكمه لازم للخصمين فكيف يكون موقوفا؟ ولو كان كذلك لمَلَكَ فسخه وإن لم يخالف رأيه ولانسلم الوقوف في العقود.
إذا ثبت هذا فإن لكل واحد من الخَصْمين الرجوع عن تحكيمه قبل شروعه في الحكم لأنه لايثبت إلا برضاه، فأشبه ما لو رجع عن التوكيل قبل التصرف، وإن رجع بعد شروعه ففيه وجهان (أحدهما) له ذلك لأن الحكم لم يتم أشبه قبل الشروع (والثاني) ليس له ذلك لأنه يؤدي إلى أن كل واحد منهما إذا رأى من الحَكَم مالا يوافقه رجع فبطل المقصود به.
(فصل) قال القاضي: وينفذ حُكْمُ من حَكَّماه في جميع الأحكام إلا أربعة أشياء: النكاح واللعان والقذف والقصاص لأن لهذه الأحكام مَزِيَّة على غيرها فاختص الإمام بالنظر فيها ونائبه يقوم مقامه، وقال أبو الخطاب ظاهر كلام أحمد أنه ينفذ حكمه فيها، ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين، وإذا كتب هذا القاضي بما حَكَمَ به كتابا إلى قاض من قضاة المسلمين لزمه قبوله وتنفيذ كتابه، لأنه حاكم نافذ الأحكام، فلزم قبول كتابه كحاكم الإمام).انتهى كلام ابن قدامة في (المغني). ومانقله عن القاضي ــ أبى يعلى ــ فيما يجوز فيه التحكيم ومالا يجوز يوافق ماذكره القاضي ابن فرحون المالكي في (تبصرة الحكام) 1/ 62.
* وقال ابن قدامة في (الكافي) (واختلف أصحابنا فيما يجوز فيه التحكيم. فقال أبو الخطاب: ظاهر كلام أحمد أن تحكيمه يجوز في كل ماتحاكم فيه الخصمان، قياسا على قاضي الإمام. وقال القاضي: يجوز حكمه في الأموال خاصة، فأما النكاح والقصاص، وحد القذف فلا يجوز التحكيم فيها لأنها مبنية على الاحتياط، فيعتبر للحكم فيها قاضي الإمام كالحدود) «الكافي» لابن قدامة ط المكتب الإسلامي جـ 4 صـ 436.
3 ــ وقال إمام الحرمين الجويني (وقد اختلف قول الشافعي رحمه الله في أن من حَكَّم مجتهدا في زمان قيام الإمام بأحكام أهل الإسلام، فهل ينفذ ماحَكَم به الحَكَم؟ فأحد قوليه، وهو ظاهر مذهب أبي حنيفة رحمه الله أنه ينفذ من حكمه ماينفذ من حكم القاضي الذي يتولى منصبه من تولية الإمــام. وهـذا قــول متجــه في القيــاس، لســت أرى الإطــالـة بذكــر تــوجهــه) (الغيــاثي) ط 2 تحقيق د. عبدالعظيم الديب 1401هـ صـ 389.
4 ــ وجاء في كتاب (فتح القدير شرح الهداية) للأحناف (إذا حَكَّم رجلان رجلاً فحكَمَ بينهما ورضيا بحكمه جاز) لأن لهما ولاية على أنفسهما فصحّ تحكيمهما وينفذ حكمُه عليهما، وهذا إذا كان المحَكَّم بصفة الحاكم ــ بأن يكون أهلا للشهادة ــ لأنه بمنزلة القاضي فيما بينهما فيشترط أهلية القضاء، ولايجوز تحكيم الكافر والعبد والذميّ والمحدود في القذف والفاسق والصبي لإنعدام أهلية القضاء اعتبارا بأهلية الشهادة، والفاسق إذا حَكَم يجب أن يجوز عندنا ــ الحنفية ــ كما مر في الـمُوَلَّى ــ أي القاضي الذي يوليه السلطان (ولكل واحد من المحكمين أن يرجع مالم يحكم عليهما) لأنه مُقلَّد من جهتهما فلا يحكم إلا برضاهما جميعا (وإذا حكم لزمهما) لصدور حكمه عن ولاية عليهما (وإذا رفع حكمه إلى القاضي فوافق مذهبه أمضاه) لأنه لافائدة في نقضه ثم في إبرامه على ذلك الوجه (وإن خالفه أبطله) لأن حكمه لايلزم لعدم التحكيم منه ــ أي من القاضي ــ (ولايجوز التحكيم في الحدود والقصاص) لأنه لا ولاية لهما على دمهما ولهذا لايملكان الإباحة، فلا يستباح برضاهما، قالوا وتخصيص الحدود والقصاص يدل على جواز التحكيم في سائر المجتهدات) (فتح القدير) 5/ 499، وقال أيضا (وإذا رُفِعَ إلى القاضي حُكْمُ حاكم ٍ أمضاه إلا أن يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع بأن يكون قولاً لا دليل عليه) (فتح القدير) 5/ 487.
5 ــ وفي تفســير أبي بكر بن العربي المالكي لقوله تعالى (ومــن لــم يحكــم بمـا أنــزل اللـه فأولئك هم الكافرون) المائدة 44، ذكر تحاكم اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم برضاهم وأن حكمه نفذ عليهم، فقال (المسألة السادسة: لما حَكَّموا النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ عليهم الحكم، ولم يكن لهم الرجوع، وكل من حَكَّم رجلاً في الدين فأصله هذه الآية. قال مالك: إذا حَكَّم رجلٌ رجلاً فحكمُه ماض ٍ، وإن رُفِعَ إلى قاض ٍ أمضاه إلا أن يكون جوراً بيِّناً. وقال سحنون: يمضيه إن رآه. قال ابن العربي: وذلك في الأموال والحقوق التي تختص بالطالب، فأما الحدود فلا يحكُم فيها إلا السلطان. والضابط: أن كل حق اختص به الخَصْمان جاز التحكيم فيه ونفذ تحكيم المحكّم به. ــ إلى قوله ــ وتحقيقه أن الحكم بين الناس إنما هو حقهم لاحق الحاكم، بَيْدَ أن الاسترسـال على التحِكيم خرمٌ لقاعدة الولاية ومُؤَد ٍ إلى تهارُج الناس تهارج الحُمُر، فلابد من نصبِ فاصــل ٍ، فــأمَرَ الشـرع بنصب الوالــي ليحســم قاعـدة الهَرَج، وأَذِنَ في التحكيم تخفيفاً عنه وعنهم في مشقة الترافع، لتتم المصلحتان وتحصل الفائدتان.) (أحكام القرآن) لابن العربي صـ 622 ــ 623. هذا وقد ذكر ابن العربي في (صـ 621) أن تحاكم اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقع برضاهم لأن الحكم بينهم كان من حق أساقفتهم (الأحبار). وذكر الطبري مثله في تفسير قوله تعالى (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) المائدة 42، وأهل العلم بالسِّيَر لم يختلفوا في أن اليهود بالمدينة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أهل موادعة لم يلتزموا بجريان حكم الإسلام عليهم، وأنهم لم يكونوا أهل ذمة يؤدون الجزية. ولهذا فكان تحاكمهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الواقعة برضاهم واختيارهم لا بالتزام منهم بذلك. هذا حاصل ماذكره الشافعي رحمه الله في (الأم) 4/ 129 ــ 130، نقلاً عن أحمد شاكر في (عمدة التفسير) 4/ 167.
6 ــ وقال الخطابي في شرحه لسنن أبي داود رحمهما الله، عند شرحه لحديث إمارة السفر (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمِّروا أحدهم)، قال الخطابي (إنما أمر ــ صلى الله عليه وسلم ــ بذلك ليكون أمرهم جميعا ولايتفرق بهم الرأي ولايقع بينهم خلاف فيعنتوا، وفيه دليل على أن الرجلين إذا حكمَّا رجلا بينهما في قضية فقضى بالحق فقد نفذ حكمه) (معالم السنن)، ط دار الكتب العلمية، 1401 هـ، جـ 2 صـ 260.
7 ــ ومن الأدلة على جواز التحكيم وسريان أحكام غير الإمام وقضاته، أن البغاة إذا استولوا على بلد وحكموه بالشرع وجَبَواْ منه الأموال على مقتضى الشرع فإن أحكامهم هذه نافذة ولاينقضها الإمام العدل إذا ظهر على هذا البلد. فقد قال ابن قدامة (وإذا نصب أهل البغي قاضيا يصلح للقضاء فحكمه حكم أهل العدل ينفذ من أحكامه ماينفذ من أحكام أهل العدل ويُرد منه مايرد... (المغني والشرح الكبير) جـ 10 صـ 70. وقال ابن قدامة أيضا (وإن استولوا ــ أي البغاة ــ على بلد فأقاموا فيها الحدود، وأخذوا الزكاة والجزية والخراج احتُسِب به، لأن عليا لم يتتبع مافعله أهل البصرة وأخذوه، وكان ابن عمر يدفع زكاته إلى ساعي نجدة الحروري... (الكافي) جـ 4 صـ 152. وهذا ماقرره الجويني أيضا (الغياثي صـ 374).
8 ــ وهذا الذي قرره فقهاء المذاهب المختلفة من جواز التحاكم لغير القاضي المولَّى في دار الإسلام ذكر أبو بكر بن المنذر النيسابوري أنه محل إجماع، وذلك في كتابه (الإجماع) فقال (إجماع 254 ــ وأجمعوا على أن ماقضى قاضي غير قاض، جائز إذا كان مما يجوز) (كتاب الإجماع) ط دار طيبة 1402 هـ صـ 75. ومعنى قوله (قاضي غير قاض) أي قاضي غير معين من جهة الإمام، أي غير قاضي الإمام، وقوله (إذا كان مما يجوز) أي إذا كان ماحكم به هذا القاضي مما يجوز في الشريعة. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية (والقاضي اسم لكل من قضى بين اثنين وحكم بينهما سواء كان خليفة، أو سلطانا، أو نائبا، أو واليا، أو كان منصوبا ليقضي بالشرع أو نائبا له، حتى من يحكم بين الصبيان في الخطوط إذا تخايروا، هكذا ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر) (مجموع الفتاوى) جـ 28/ 254.     فهـذه أدلـة جواز تحاكم الناس برضاهم إلى رجل مؤهل للحكم، بخلاف قاضي الإمام في دار الإسلام، حيث للمسلمين إمام يحكمهم وشريعة إسلامية تعلوهم، وقد نقل أبو بكر بن المنذر الإجماع على جواز ذلك.





تنبيـه:
 الفرق بين الحَكَم والقاضي من عدة أوجه:

1 ــ الحَكَم لا يفتقر إلى ولاية من إمام الوقت، بخلاف القاضي الذي لايتولى إلا بولاية من الإمام.
2 ــ الحَكَـم لايحكـم بين اثنـين من النـاس إلا برضـاهـما وتحاكمهما إليه مختـارين، بخـلاف قاضي الإمام الذي يحكم بين الخصوم رضوا أم لم يرضوا، وله أن يجبرهم على الحضور إلى مجلس القضاء، وإن لم يختاورا، طالما بلغته الدعوى.
3 ــ الحَكَم ليس له عموم النظر في الخصومات ولا استدامته، إذ إن عموم النظر واستدامته معناه أنه ذو ولاية، فهذا للقاضي المتولي من جهة الإمام.
ويتفق الحَكَم والقاضي في وجوب استيفائهما لشروط القضاء، وفي أن حكمهما مُلْزِم للخصوم. إلا أن القاضي يملك سلطة تنفيذ حكمه بالشُرْط، والحَكَم قد لا يملك القوة إن لزمت، فإن قبل الخصوم تنفيذ حكمه برضاً منهم ــ وهذا واجب عليهم ــ وإلا فيمكن للحَكَم أن يكتب للقاضي المولَّى ليأمر بتنفيذ حكمه كما قال ابن قدامة (وإذا كتب هذا القاضي بما حَكَم به كتاباً إلى قاض ٍ من قضاة المسلمين لزمه قبوله وتنفيذ كتابه) (المغني والشرح الكبير) 11/ 484. هذا فيما يتعلق بالحال الأول من هذه  المسألة.


ثانيا:
 وجوب التحكيم مع انعدام إمام المسلمين وقضاته:

وهو إذا لم يكن للمسلمين إمام يحكمهم ولاقضاء شرعي يتحاكمون إليه، وهذا هو حال أغلب المسلمين اليوم، فلا أقول يجوز لهم، بل أقول يجب عليهم أن يرجعوا إلى من يصلح للقضاء الشرعي منهم ليحكم بينهم بشرع الله فإن لم يجدوا مؤهلا للقضاء اختاروا الأمثل فالأمثل ويحرم عليهم التحاكم إلى القوانين الوضعية الكفرية.
والدليل على صحة هذا: جميع ماذكرته في الحال الأول، خاصة كلام الشيخ ابن ضويان في كتابه (منار السبيل) وكلام ابن قدامة في (المغني)، وبالإضافة إلى هذا: ــ
1 ــ قال القاضي أبو يعلى الحنبلي (ولو أن أهـل بلـد قـد خـلا من قــاض ٍ أجمعوا على أن قلدوا عليهم قاضيا، نظرت: فإن كان الإمام موجودا بطل التقليد، وإن كان مفقودا صح، ونفذت أحكامه عليهم. فإن تجدد بعد نظره إمام، لم يستدم النظر إلا بعد إذنه، ولم ينقض ماتقدم من حكمه. وقد نص أحمد رحمه الله تعالى على أن نفسَين لو حَكَّما عليهما نفذ حكمُه عليهما) (الأحكام السلطانية) صـ 73. وموضع الاستشهاد هو قوله إذا كان الإمام مفقودا صح أن يولي الناس عليهم قاضيا. أما قوله إن كان الإمام موجودا بطل التقليد فلا ينقض ماذهبنا إليه في الحال الأول إذ إن تقليد القضاة من حقوق الإمام، وماذكرناه في الحال الأول هو تحكيم حَكَم وليس تولية قاض، وقد ذكرت أوجه الاختلاف بين الحَكَم وبين القاضي أعلاه.
2 ــ وقال الإمام السيوطي ــ وهو شافعي ــ (وقال ابن السبكي في (الترشيح) ذكر (الخوارزمي) في (الكافي) أن المتغلِّب على إقليم لو نصب قاضياً غير مجتهد أو غير عدل، والناس غير قادرين على دفعه هل تنفذ أحكامه وقضاياه من تزويج الأيامى والتصرف في أموال اليتامى؟ يحتمل وجهين:
أحدهما لا، وطريق المسلمين التحاكم إلى من هو من أهل القضاء في حوادثهم، فإن لم يجدوا أهلاً نفذت أحكامه للضرورة.) (الرد على من أخلد إلى الأرض) للسيوطي، صـ 88، ط دار الكتب العلمية 1403 هـ.
3 ــ وقال ابن عابدين الحنفي في حاشيته (وإن فُقِدَ وال ٍ لغلبة الكفار، وجب على المسلمين تعيين والٍ وإمام للجمعة). وقال أيضا (وأما بلاد عليها ولاة كفار فيجوز للمسلمين إقامة الجُمع والأعياد ويصير القاضي قاضيا بتراضي المسلمين، فيجب عليهم أن يلتمسوا والياً منهم) وقال أيضا (وإن لم يكن سلطان ولامن يجوز التقليد منه كما هو في بعض بلاد المسلمين كقرطبة الآن، يجب على المسلمين أن يتفقوا على واحد ٍ منهم فيجعلوه والياً، فيولي قاضيا ويكون هو الذي يقضي بينهم، وكذا ينصبوا إماماً يصلي بهم الجمعة) (حاشية رد المحتار على الدر المختار) 4/ 308، وبعضه في 3/ 253.
4 ــ وقد تكلم إمام الحرمين الجويني عن هذه المسألة باسهاب فقال (وقد حان الآن أن أفرض خلو الزمان عن الكفاة ذوي الصرامة، خلوه عمن يستحق الإمامة ــ إلى قوله ــ أما مايسوغ استقلال الناس فيه بأنفسهم، ولكن الأدب يقتضي فيه مطالعة ذوي الأمر، ومراجعة مرموق العصر، كعقد الجُمَع وجرّ العساكر إلى الجهاد، واستيفاء القصاص في النفس والطرف، فيتولاه الناس عند خلو الدهر ــ إلى قوله ــ وإذا لم يصادف الناس قَوَّاماً بأمورهم يلوذون به فيستحيل أن يؤمروا بالقعود عما يقدرون عليه من دفع الفساد فإنهم لو تقاعدوا عن الممكن، عم الفساد البلاد والعباد ــ إلى قوله ــ وقد قال بعض العلماء: لو خلا الزمان عن السلطان فحق على قطان كل بلدة وسكان كل قرية أن يقدموا من ذوي الأحلام والنهى، وذوي العقول والحجا من يلتزمون امتثال إشاراته وأوامره، وينتهون عند مناهيه ومزاجره، فإنهم لو لم يفعلوا ذلك ترددوا عند إلمام المهمات وتبلدوا عن إظلال الواقعات ــ إلى قوله ــ ثم كــل أمــر يتعاطــاه الإمــام في الأمــور المفوضة إلى الأئمة. فإذا شغــر الزمـان عن الإمــام، وخلا عن سلطــان ذي نجــدة وكفاية ودراية، فالأمور موكولة إلى العلماء، وحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم، فإن فعلوا ذلك، فقد هدوا إلى سواء السبيل، وصار علماء البلاد ولاة العباد. فإن عسر جمعهم على واحد استبد أهل كل صقع وناحية باتباع عالمهم، وإن كثر العلماء في الناحية، فالمتبع أعلمهم، وإن فرض استواؤهم ففرضهم نادر لا يكاد يقع، فإن اتفق فإصدار الرأي عن جميعهم مع تناقض المطالب والمذاهب محال، فالوجه أن يتفقوا على تقديم واحد منهم. فإن تنازعوا وتمانعوا وأفضى الأمر إلى شجار وخصام فالوجه عندي في قطع النزاع الإقراع، فمن خرجت له القرعة قُدِّم) صـ 385 ــ 391.
* ثم قال الجويني إنه إذا خلا الزمان عن العلماء المجتهدين ولم يبق إلا نقلة مذاهــب الأئمـة قال: (إن الفقيــة الذي وصفناه يحل في حق المستفتي محل الإمام المجتهد الراقي إلى الرتبة العليا في الخلال المرعية) صـ 427 (الغياثي) ط 2 تحقيق د/ عبدالعظيم الديب 1401هـ.
ومعنى كلام الجويني رحمه الله أنه يُستفتى الأمثل فالأمثل، فإن وُجِدَ المجتهد لم يجز استفتاء المقلد، وإلا جاز. وكذلك في التحكيم يُتحاكم إلى الأعلم فمن دونه، وقال ابن القيم رحمه الله (ونظير هذه المسألة إذا لم يجد السلطان من يوليه القضاء إلا قاضيا عاريا من شروط القضاء لم يعطل البلد عن قــاض وولــي الأمثل). أهـ (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 196 ــ 197. ولابن تيمية كلام مثل هذا في (الاختيارات الفقهية) صـ 332.
فهذه هى أقوال السلف فيما إذا خلا الزمان عن الإمام الأعظم أنه يجب على أهل كل بلد وناحية أن يتحاكموا إلى أهل العلم فيهم من المجتهدين فإن عُدِموا فيحتكموا إلى الأمثل فالأمثل. وخطاب الله بإقامة الأحكام موجه إلى مجموع الأمة قال تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) المائدة، وقال تعالى (الزانية والزاني فاجلدوا) النور وغيرها، وينوب الإمام عن الأمة في تنفيذ هذا، كما في الحديث الصحيح (إنما الإمام جُنَّة) الحديث متفق عليه وفيه أيضا (فالإمام الأعظم الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته) الحديث متفق عليه، فإذا فُقِد الإمام يرجع الخطاب إلى مجموع الأمة فيقدم الناس من يتحاكمون إليه ممن يصلح لهذا. وقال أحمد بن حنبل (لابد للناس من حاكم، أفتذهب حقوق الناس؟) ذكره أبو يعلى في (الأحكام السلطانية) صـ 24، 71 وذلك لأن نُصْبَة القضاة من فروض الكفاية لحفظ العدل وإن لم يقم به البعض أثم الكل، قال تعالى (ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط) النساء 135، وقال تعالى (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) الحديد 25.
وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى هذا المعنى أوضح إشارة، وهو أن الأحكام والحدود مخاطب بها مجموع الأمة، ويقيمها السلطان ذو القدرة، فإن عُدِم السلطان وأمكن إقامتها ــ إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها ــ فهذا هو الواجب، فقال رحمه الله: (خاطب الله المؤمنين بالحدود والحقــوق خطــابا مطلقــا، كقوله تعالى (والسـارق والسارقـة فاقطعــوا أيديهما) المائدة، وقال تعالى (الزانية والزاني فاجلدوا) النور. وكذلك قوله: (ولاتقبلوا لهم شهادة أبدا)، لكن قد علم أن المخاطب بالفعل لابد أن يكون قادرا عليه، والعاجزون لايجب عليهم، وقد عُلِمَ أن هذا فرض على الكفاية، وهو مثل الجهاد، بل هو نوع من الجهاد. فقوله (كتب عليكم القتال)، وقوله:(وقاتلوا في سبيل الله) وقوله:(إلا تنفروا يعذبكم) ونحو ذلك هو فرض على الكفاية من القادرين. و «القدرة» هي السلطان، فلهذا: وجب إقامة الحدود على ذي السلطان ونوابه.
والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد، والباقون نوابه، فإذا فُرِضَ أن الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها، وعجز من الباقين، أو غير ذلك فكان لها عدة أئمة. لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود، ويستوفي الحقوق، ولهذا قال العلماء إن أهل البغي يَنْفُذ من أحكامهم ما ينفذ من أحكام أهل العدل، وكذلك لو شاركوا الإمارة وصاروا أحزابا لوجب على كل حزب فعل ذلك في أهل طاعتهم، فهذا عند تفرق الأمراء وتعددهم، وكذلك لو لم يتفرقوا، لكن طاعتهم للأمير الكبير ليست طاعة تامة، فإن ذلك أيضا إذا أسقط عنه إلزامَهم بذلك لم يسقط عنهم القيامُ بذلك، بل عليهم أن يقيموا ذلك، وكذلك لو فرض عجز بعض الأمراء عن إقامة الحدود والحقوق، أو إضاعته لذلك: لكان ذلك الفرض على القادر عليه.
وقول من قال: لا يقيم الحدود إلا السلطان ونوابه. إذا كانوا قادرين فاعلين بالعدل كما يقول الفقهاء: الأمر إلى الحاكم. إنما هو العادل القادر، فإذا كان مُضَيِّعاً لأموال اليتامي، أو عاجزا عنها: لم يجب تسليمها إليه مع إمكان حفظها بدونه وكذلك الأمير إذا كان مضيعا للحدود أو عاجزا عنها لم يجب تفويضها إليه مع إمكان إقامتها بدونه. والأصل أن هذه الواجبات تُقام على أحسن الوجوه. فمتى أمكن إقامتها مع أمير لم يحتج إلى اثنين، ومتى لم يقم إلا بعدد ومن غير سلطان أقيمت إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها، فإنها من «باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» فـإن كان في ذلك من فسـاد ولاة الأمــر أو الرعيــة مايزيد على إضاعتهـا لم يدفــع بأفسـد منه. واللـه أعلم) (مجموع الفتاوى جـ 34 صـ 175، 176).
فهذه أقوال العلماء في بيان صحة ــ بل وجوب ــ اتفاق الناس على إقامة الأحكام بينهم ــ ما أمكنهم ذلك ــ زمن غياب الإمام، على أن يُحَكِّموا بينهم من يصلح للقضاء الشرعي الأمثل فالأمثل.


ثالثا:
 كيفية تحاكم المسلمين إلى الشريعة في البلاد المحكومة بقوانين الكفار:

في البـلاد المحكومـة بالقـوانين الوضعيـة يجب على المسلمـين التحاكم إلى الشريعة بحسب المستطاع، فقد قال تعالى (فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) النساء 65، وقال تعالى (فاتقوا الله مااستطعتم) التغابن 16.
وهنا أربع مسائل: من يجب عليه ذلك؟، وصفة من يتحاكم إليه؟، ومايجوز فيه التحكيم؟، وحرمة الامتناع عن التحاكم إلى الشرع.
1 ــ من يجب عليه التحاكم إلى الشريعة؟.
ولايخفـى أن هـذا فـرض عـين على كـل مسلـم إذا نـزل به مايدعـو إلى ذلك، فإن هــذا التحاكـم من أصـل الإيمان كما أسلفت. ولكني أودّ أن أنبه هنا على واجب قادة الجماعات والجمعيات الإسلامية المختلفة في هذالشأن، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) الحديث متفق عليه، فيجب على هؤلاء القادة أن يُلزموا أتباعهم بهذا الواجب الشرعي، ويجب أن تتضمن عقود هذه الجماعات النص على هذا الواجب فيصير التحاكم بذلك واجبا على الأتباع من ثلاثة أوجه:
* يصير واجبا بالشرع، لقوله تعالى (فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم)   النساء 65.
* وواجبا بالعقد، لقوله تعالى (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا) الإسراء 34.
* وواجـبا بأمـر قـادة الجماعـات به، لقوله تعالى (أطيعـوا اللـه وأطيعـوا الرسـول وأولـي الأمر منكم) النساء 59.
ومايجب على قادة الجماعات من أمر اتباعهم بذلك هو واجب على كل مطاع ٍ كشيوخ القبائل وزعماء العشائر ونحوهم.
2 ــ صفة من يتحاكم إليه؟.
يتحاكم إلى الأمثل فالأمثل، والأصل في الحاكم أن يكون مجتهداً، لحديث عمرو بن العاص رفعه (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب...) الحديث متفق عليه. فإن عُدِمَ يتحاكم إلى المقلد وطالب العلم كماسبق في كلام الجويني وابن تيمية وابن القيم، وكما سبق بيانه في مراتب المفتين في الباب الخامس من هذا الكتاب، حتى قال القاضي برهان الدين بن فرحون (قال اللخمي إنما يجوز التحكيم إذا كان المحكَّم عدلاً من أهل الاجتهاد أو عامياً واسترشد العلماء، فإن حَكَم ولم يسترشد رُدَّ وإن وافق قول قائل، لأن ذلك تخاطر منهما وغَرَر) (تبصرة الحكام) 1/ 63.
فالواجب التحاكم إلى الأمثل فالأمثل ولايجوز تعطيل هذا الواجب ماأمكن إقامته، وهنا يقع عبء كبير على المسلمين عامة وعلى ولاة الأمور منهم خاصة كقادة الجماعات والجمعيات الإسلامية من أجل توفير عدد كاف ٍ من المؤهلين للتحكيم بين المسلمين، فالواجب على كل من ظهرت لديه نجابة في طلب العلم أن يَنكبَّ على دراسة الفقه وعلوم الوسائل الممهدة له حتى يتأهل للحكم بين المسلمين وقد ذكرت في المباحث السابقة مايعين على هذه الدراسة، ويجب على قادة الجماعات الإسلامية انتداب من كان بهذه الصفة من أتباعهم لطلب العلم وكفالته مادياً ليتفرغ لهذا الأمر.
3 ــ ما يجوز فيه التحكيم؟.
الراجح الذي تشهد له الأدلة أن التحكيم جائز في كل شيء، ودليله:
أ ــ حديث أبي شريح ــ الذي سبق ذكره في كلام ابن قدامة وابن ضويان ــ أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم (يا رسول الله إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فَرَضِىَ كلا الفريقين، قال صلى الله عليه وسلم: ماأحسن هذا) الحديث. فقوله (إذا اختلفوا في شيء) صيغة عموم تعم كل مختلف ٍ فيه، لأنها نكرة (شيء) في سياق الشرط (إذا).
ب ــ ودليله أيضا تحكيم اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم في حدّ الرجم، ونفاذ حكمه عليهم، كما سبق في كلام أبي بكر بن العربي رحمه الله.
وعلى هذا فالتحكيم جائز في كل شيء بين المسلمين المقيمين بالبلاد المحكومة بقوانين الكفر، ولايقيد هذا إلا ماذكره ابن تيمية في آخر كلامه المذكور آنفا (والأصل أن هذه الواجبات تُقام على أحسن الوجوه، فمتى أمكن إقامتها مع أمير لم يحتج إلى اثنين، ومتى لم يقم إلا بعدد ومن غير سلطان أقيمت، إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها) (مجموع الفتاوى) 34/ 176.
فإذا تعذر التحكيم في الحدود والقصاص أو ترتب على تنفيذ العقوبات فيهما مفسدة، فليكن في الأموال والحقوق والنكاح وتوابعه، وكل هذا يدخل في تقوى الله المستطاعة للعبد، ويدخل تحت القاعدة الفقهية (الميسور لا يسقط بالمعسور) وصاغها الشيخ الإمام عزالدين بن عبدالسلام هكذا (إن من كُلف بشيء من الطاعات فَقَدَر على بعضه وعجز عن بعضه، فإنه يأتي بما قدر عليه، ويسقط عنه مايعجز عنه) (قواعد الأحكام جـ 2صـ 6 و 19) وهذه القاعدة مستفادة من قوله تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم) التغابن 16، ومن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (وما أمرتكم به فأتوا منه مااستطعتم) الحديث متفق عليه. ومما يدخل في الاستطاعة إخراج الزكاة وإن عطّلها الحكام، وأداء الديات وأروش الجراحات والكفارات وإن لم تحكم بها المحاكم الكافرة، وحُرْمَة الربا، ومما يتعلق بهذا مراعاة القيمة في القروض وفي البيع بالأجل وذلك لأن قيمة الأوراق المالية تتغير كثيرا بالزمن وغالبا ماتنقص قيمتها وهو مايُعرف في الاقتصاد المعاصر (بالتضخم) ويتلاعب الحكام الظالمون بقيمة العملات الورقية تلاعبا كبيراً بالنقص من قيمتها بما يعود بالغُبن الفاحش على الرعية.فالواجب جعل أحد النقدين المعتبرين في الشريعة (الذهب والفضة) أساس هذه التعاملات، فمثلا إذا أقرضك رجل ألف ليرة اليوم وكان جرام الذهب اليوم بمائة ليرة فأنت اقترضت عشرة جرامات، فإذا كان أجل القرض سنة وكان جرام الذهب بعد سنة بمائتي ليرة ورددت إليه الألف ليرة فقد رددت إليه خمسة جرامات وظلمته ظلما فاحشا، والواجب عليك أن ترد إليه ألفي ليرة، وعكسه إذا زادت قيمة الليرة ترد إليه أقل من الألف الأصلية كالحساب السابق، وهذا ليس من الربا في شيء بل هو رجوع إلى النقد المعتبر شرعا، فهذه الأوراق لا اعتبار لها شرعا إلا بتقييمها بالذهب أو الفضة، وهو مايفعله كل مسلم عند إخراج زكاة المال وزكاة عروض التجارة، واحتساب النصاب في السرقة. وماسبق من اعتبار القيمة لايسري على الودائع فهذه ترد كما هى، وقد أشار الشيخ أحمد الزرقا إلى هذه المسألة في كتابه القواعد الفقهية، في قاعدة (لا ضــرر ولا ضــرار) ونَسَبَ هذا القول إلى القاضي أبي يوسف (شرح القواعد الفقهية) للشيخ أحمد الزرقا، صـ 121، ط دار الغرب الإسلامي.
4 ــ حرمة الامتناع عن التحاكم إلى الشرع:
ولايحل لأحد دعي إلى التحاكم إلى الشرع أن يُعرض عنه فإن هذا من خصال النفاق كما قال تعالى (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ماأنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا) النساء 61، وقال تعالى (وإذا دعوا إلي الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين، أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله، بل أولئك هم الظالمون، إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون) النور 48 ــ 51.
وبهذا كنت ومازلت أنصح إخواني المسلمين. وأرى أن الله تعالى لايمن على المسلمين بحكم إسلامي إلا إذا تحاكموا إلى الشرع بالقدر المستطاع في الظروف الحالية فإن سعوا في هذا فلعل الله تعالى أن ينجز وعده كما قال تعالى (إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) الرعد 11.
وفي تحاكم المسلمين إلى الشرع في هذا الزمان فائدة أخرى وهى إبقاء هذه الشريعة حية علما وعملاً بممارسة القضاء الشرعي، وهذا بخلاف مايريده الطواغيت من إماتة الشريعة وحملتها، وكل هذا يمهد للحكم الإسلامي بإذن الله تعالى.
إن هـذه القـوانين الطاغوتيـة هى كفـر أكبر مُخْرِج لمن وَضَعَها ولمن حَكَمَ بها ولمن تَحَاكَم إليها راضيا مختارا من ملة الإسلام، وهى من أنكر المنكرات، وأضعف الإيمان وهو الإنكار بالقلب يستوجب على المسلمين مقاطعة هذه القوانين ومحاكمها وقضاتها والبراءة منهم، وأن يمتنعوا عن الدراسة في كليات الحقوق التي تدرس القوانين الكافرة، وأما الإنكار باللسان فمنه هذا الكلام ونشره بين المسلمين ودعوتهم إلى العمل به، وأما الإنكار باليد لهذه القوانين الكافرة ولمن يَعْمل بها ويَحْمِيَها فهو الجهاد في سبيل الله تعالى. قال تعالى (قد كان لكم أسوةٌ حسنةٌ في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم، وبَدَا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده) الممتحنة 4، وقال تعالى (وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله) الأنفال 39.
وهذا آخر ماأذكره في موضوع (وجوب التحاكم إلى الشريعة) وبالله تعالى التوفيق.

فهرس

تمهيد…………………………………………3
أولا: بيان جواز التحكيم مع وجود القاضي الشرعي المـُوَلَّى في دار الإسلام……………………….……………5
تنبيـه: الفرق بين الحَكَم والقاضي ………...…………17
ثانيا: وجوب التحكيم مع انعدام إمام المسلمين وقضاته...……19
ثالثا: كيفية تحاكم المسلمين إلى الشريعة في البلاد المحكومة بقوانين الكفار……………..................…….………29
1 ــ من يجب عليه التحاكم إلى الشريعة؟...………29
2 ــ صفة من يتحاكم إليه؟……........………31
3 ــ ما يجوز فيه التحكيم؟…….........………32

4 ــ حرمة الامتناع عن التحاكم إلى الشرع…....…35

Diterbitkan Oleh : Al Masjidiy Jurnal News Network

Al Masjidiy Murupakan kumpulan dari tulisan-tulisan yang ada dalam beberapa buletin dan artikel ilmiah, soalnya admin pernah menjadi pemred beberapa buletin di Kota Metro Lampung dan Kota Bekasi. Saat ini admin Fokus pada pengembangan media online. Admin juga menerima tulisan dari pembaca melalui email: almasjidiy@gmail.com

Join Me On: Facebook | Twitter | Google Plus :: Terima Kasih Telah Membaca Artikel Ini ::

0 comments:

Post a Comment

Opini Terbaru